السبت, 28 يناير 2023 11:54 صباحًا 0 142 0
الاستاذ هشام صالح ينقل
الاستاذ هشام صالح ينقل
الاستاذ هشام صالح ينقل

"
تأملات في أغنية "القروية"
 
مهدي يوسف إبراهيم
.......................
ثمة أغنيات تحس بروح السودان تتنفسُ فيها ...و أغنية " القروية " واحدة منها ، و هي من كلمات و ألحان الشاعر الكبير "عبد الله الكاظم" وغناء الصوت العبقري " إبراهيم موسي أبّا" ...
" عبد الله الكاظم " من مواليد مدينة بارا ، و هو من رواد الأغنية الكردفانية الكبار و تغنّى له "عبدالرحمن عبد الله" و "صديق عباس" و "إبراهيم موسى أبا" و "عبد القادر سالم "، بل تغني له العظيم "محمد وردي" بأغنية نادرة اسمها "وديان الريد" و هي الأغنية الوحيدة التي انفتح فيها وردي على التراث الكردفاني....و من أشهر أغنيات الكاظم " ست الفريق " و " شقيش قوليا مرّوح" و " يا قلبي من حالتك الفوقك الله يصبّرك" و " الليموني" ...
أما "إبراهيم موسى أبّا" فهو أحد العباقرة المنسيين في الغناء السوداني ...وُلد في مدينة الأبيّض و ساهم في نقل إيقاعات قبيلة البقارة إلي بقية أصقاع السودان . و مثله مثل بقية مطربي كردفان ، تجمعُ أغنياتُه بين السلم الخماسي السائد في السودان و السلم السباعي الموجود في بقية البلاد العربية ....و قد اشتهر "إبراهيم موسي أبا" بصوتٍ عذوبٍ طروب لعل فيه شيء من شبه بصوت البلبل العظيم " إبراهيم خوجلي "...و من أشهر أغنيات الرجل " القروية " و "آمال محب" و " القندلة " و "تومتي" و " دنيا غشاشة" و " عز التوب" و " كلام عيونك" و " ليالي العمر" و غيرها ....
تصوّر أغنية "القروية " مشهد فتاة في طريقها لورود الماء. والشاعرُ يتغزّل في هذه الصبية بصورةٍ غاية في العذوبة و الجمال ...و لعلّي أحاول تفكيك معاني بعض الكلمات تيسيراً للنص 
.................
عيني عليك باردة يا الجاهلة يا الواردة (1)
يا فقرا ردّولي رويحتي الهناك شاردة (2)
.........
في مشيتا الخايلة ورّادة كيف مايلة (3)
البيها تتشتت دميعات حرير سايلة (4)
روحي العطيشانة لي شديرتك الشايلة (5)
و قلبي كان شفتي ...حرّاية القايلة (6)
........
وِديعة منظومة كايسالا لي تومة (7)
إن قلنا نوصفها خشومنا مختومة (8) 
دي من برق عينيها عقولنا ملخومة (9)
.....
قشيشة الخريف خدرا شايلالا نوّارة (10)
النوم جفا عيونا سوانا سهارى (11)
بيك الفريق نوّر يا ست بنّوت بارة (12)
.....
(1) عيني عليك باردة = تعبير يرادُ به الدعاء ألا تصيب عينه تلك الفتاة لجمالها ...و قد يكون تعبيراُ يفيد الدهشة من فرط جمال الفتاة..
الجاهلة = هي التي لا تقرأ و لا تكتب ، و في العامية السودانية تطلق على الطفلة ...و قد تفيد صغيرة السن ...قال الشاعر " عبيد عبد الرحمن" : 
جاهل صغير مغرور 
في أحلام صباه
نايم ، خلي و مسرور 
ما عرف الهوى 
الواردة من ورود الماء ..تقول العرب " ورد فلانٌ الماء " أي أقبل عليه ... و جاء في قصيدة "نالت على يدها " ليزيد بن معاوية ( و يقال أيضا إنها للوأواء الدمشقي ):
فقال خلفتُهُ لو مات مِنْ ظمَأٍ
وقلت قف عن ورود الماء لم يرِدِ
(2) الفقرا تخفيف كلمة "فقراء" ..و الفقير في اللغة هو المحتاج ، و تُطلق على الدرويش أيضاً ..تماماً كما نفعل في عاميتنا السودانية العظيمة ...
ردولي = أي ردوا لي ، جاءت مدغمة ...
رويحتي = تصغير "روحي" ...و لعله تصغير يراد به استدرار العطف ...
يرجو الشاعر من رجال الدين أن يردوا له روحه التي شردت منه و سارت وراء تلك الفتاة ...و الاستغاثة برجال الدين كثيرة في الغناء السوداني . قال إسماعيل حسن في رائعة "القمر بوبا" :
يا "المبارك " شيخ الظهر
يا العليك ساسقتَ و فتّر
قولي جنيت و لا دستر ؟
و قد يستغيثُ الشاعرُ حتى بالمشعوذين :
ست الودع لي كشكشي
شوفيهو لي لو فيهو شي
قوليهو لي ما تختشي
أو كما في قول "أحمد حسن العمرابي" :
شوف الخيرة يا رمّالي
تقول عامللي عند عمّالي 
عارض يعترض أعمالي
أبني و أملي ما تمالي 
و العلاقة عموماُ بين الغناء السوداني و الدين علاقة قوية ...قال مختار دفع الله :
كل زادي في درب الغرام مصلاية في ضل الضحى
و أسامي لماّ الليل يجن أمسك حروفا أسبحا
و أنا في هواي درويش وحيد و سنيني فايتة مروّحة
و بالمناسبة فإن استخدام كلمة "مروّحة " أي ذاهبة له أصل فصيح ...تقول العرب " روّح فلان" أي ذهب إلى بيته ....
(3) الخايلة = أي خائلة ..و الخائلة هي التي تختال في مشيتها .... 
مايلة = يعني تتمايل في مشتيها ....وهذا من تمظهرات الجمال ...و الشعراء منذ القدم تغزلوا في مشية محبوباتهم ..قال الأعشي:
كأن مشيتها من بيت جارتها مرُ السحابةِ لا ريثٌ ولا عجلُ
وقال الشاعر السوداني :
الزينة جات تتبسّم
ماشة علي تتقسّم 
أي تتقسّم في مشيتها ...
(4) البيها = الضمير يعود إلى مشية محبوبته ...قد يعني أن مشية محبوبته تورثه البكاء تأثراً....
(5) هنا أورد كلمة روح دون تصغير، و اكتفي بتصغير الصفة فقال " روحي العطيشانة" ...و وصف الروح بالعطش فيه بلاغة وعمق ..قال الشاعر :
ما تخجلي يا السمحة قولي استعجلي
عطشتي قلبي و كل يوم تتجملي
أديني كلمة و سامحيني و طوّلي
روح الشاعر " عبد الله الكاظم " هي ظامئة و لكن ليس للماء و إنما " لي شديرة محبوبته الشايلة" ..و الشدرة هي الشجرة بالعامية السودانية حيث نقلب أحياناً الجيم دالاّ ...و الشديرة هنا قد تعني القامة ...و قد تعني جسد المحبوبة عموماً ..و لعلي أميل إلى هذا ، حيث أورد الشاعر لاحقاً وصف "الشايلة" للشجرة ..و الشايلة أي مليئة بالثمار ....وشال تأتي بمعني نضج و نضّر ...و الفعل فصيح ..تقول العرب "شال فلان الحقيبة" أي رفعها ...و شال فلان الهم أي احتمله و عاناه ...قال الشاعر السوداني " شايل هموم الدنيا مالك؟"....
(6) حرّاية = أي حرارة ...و القايلة هي ساعة الظهيرة ..و الكلمة الفصيحة هي" القائلة"......و وصف الشاعر قلبه بأنه "حراية القايلة" وصف غاية في البلاغة ...و الملاحظ عموماً أن جل تشبيهات القصيدة و صورها مأخوذة من البيئة الكردفانية الجميلة ...
هذا و قد ترد كلمة " قايلة" و " قايل" في العامية السودانية أحياناً بمعني " تظن" و " تفتكر "...قال الشاعر :
أحلى منك قايلة بلقى ؟!
و لا غيرك إنتي ببقى ؟!
بمعني هل تظنين أنني سأجد من تفوقك جمالاّ ؟ و هل تظنيني سأحيا بدونك ؟ و الاستفسار هنا استنكاري و ليس استفساراً حقيقياً...
(7) وِديعة تصغير "ودعة" و الودعة خرزة بيضاء ...و قد يشبه به الشاعر فم محبوبته لصغره ..قال الشاعر :
أقيس الفم بي ودعة و ألقى الفرق شاسع
و الودعة هنا كناية عن المحبوبة ...و "كايسالا لي تومة" بمعني لا مثيل لها...و التوم مشتق من التوأم ...بمعني الشبيه و المثيل ...يعني أن محبوبته بضة و لا مثيل لها ...
خشومنا يعني أفواهنا ..و الخشم في العامية السودانية يعني الفم ...و قد يرد الجمع على صيغة " خشّامة" قال أبو قطاطي:
أقدلي و سكتي الخشامة و انزلي في العواذل كي 
مختومة أي مغلقة ..نقول مثلا "ختم على الظرف بالشمع الأحمر"...
إن قلنا نوصفها خشومنا مختومة = يعني أن لغته لا تستطيع أن تصف محبوبته ...و ما أقوى صفة "مختومة" ....و الٌإقرار بعجز اللغة أمام المحبوب أمرُ شائع في الغناء السوداني ...قال الكابلي :
كل ما نقول نصارحك
يتجمد بيانا و يغلبنا الكلام
و قال التجاني سعيد في رائعة " من غير ميعاد" :
ضاع الكلام ماتت حروف اللقيا قبّال أهمسا
(9) برق عينيها = لمعان عينيها 
ملخومة = مضطربة 
يعني أن لمعان عينيها أورث عقله اضطرابا ...
(10) قِشيشة تصغير قشة و قشة الخريف ندية لأن الخريف هو موسم الأمطار في السودان ، و قشيشة الخريف كناية عن المحبوبة ...قال إسماعيل حسن في رائعة " الريلة" :
شن تشبه برا الداسنو في بطن المطامير
لي دروبك إنتي ما شقّن بوابير
يا قشيش نص الخلا الفوق في العتامير
البكركر رعدو ديمة سماهو عكّير
السمح مرعاكي يا قش التحاجير 
و هنا زاد " إسماعيل حسن " بأن وسم محبوبته بالطهر ، فدروبها لم تشقها بوابير ...كناية عن أنها صعبة المنال و طاهرة ....و إسماعيل وصفها بالقش و القشيش سويا ...
قال موسى الكاظم إن محبوبته نديانة مثل قشة خريفية تزينها نوارة ...و النوار هو الورد الأبيض ...قال الحلنقي :
شال النوّار ظلّل بيتنا
من بهجة وعدك و ما جيتنا 
و انعكاس مشاعر الشاعر على الطبيعة هو ملمح من ملامح المدرسة الرومانسية التي بدأت في أوربا و اجتاحت العالم العربي فيما بعد .. و الحلنقي كثيراً ما يناجي عناصر الطبيعية :
كان مغالطنا و ما مصدقنا

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر الخبر

شهير احمد
المدير العام
المدير العام

sss

شارك وارسل تعليق

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من إرسال تعليقك

بلوك المقالات

الفيديوهات

الصور

أخر ردود الزوار

استمع الافضل

آراء الكتاب

آراء الكتاب 2