خواطر اليوم الثالث
كتب: سراج الدين مصطفي
(1)
كنت حريصا للغاية لحضور حفل عودة الاستاذ ابوعركي البخيت للتغني مجددا عبر التلفزيون القومي بعد جفوة وخصومة طويلة مع تلك الأجهزة الإعلامية .. وشهد المسرح القومي بأمدرمان وقائع ذلك الحفل الأسطوري والذي إختاروا له عنوان (واحشني) وهي من الأغنيات العلامات في مسيرة الأغنية السودانية وصاغها شعرا الشاعر الكبير التجاني حاج موسي وهي بالطبع من ألحان الموسيقار الفنان أبوعركي البخيت الذي درج علي تلحين أغنياته بنفسه حتي أصبح صاحب مشروع لحني متجدد ومتجاوز لحال السائد من الألحان .. ولعل قائمة أبوعركي البخيت الغنائية كلها من ألحانه ما عدا أغنيات قليلة في بداياته مثل أغنية (خطوبة) الشهيرة ببوعدك يا ذاتي يا أقرب قريبة .. الليلة بهديك دبل الحب والخطوبة وهي من كلمات الشاعر والصحافي الراحل فضل الله محمد بجانب أغنية (طريق الماضي) وهي أيضا من كلماته وكلتا الاغنيتين من ألحان الفنان والموسيقار الراحل (محمد الأمين) والذي كان داعما ومساندا لٱبن مدينته ودمدني ويلاحظ أنهم كلهم من أبناء مدينة ود مدني (فضل الله محمد .. محمد الأمين وأبوعركي) بجانب ذلك أغنية (جسمي ٱنتحل) للشاعر حسين حمزة وألحان الموسيقار العظيم (ناجي القدسي) وأغنية (التوب) من كلمات وألحان (عوض جبريل) ولا أنسي بالطبع أغنية (جبل مرة) وهي من كلمات وألحان الفنان العظيم عبدالكريم الكابلي والذي كان معروفا بٱهداءه الاغنيات لزملائه الفنانين مثل أغنية (يا زاهية) لعبدالعزيز محمد داؤد وأغنية (عشمتيني في حبك ليه) للفنان الشعبي العبقري محمد أحمد عوض وأغنية ( بريدك والريدة ظاهرة في عينيا)لكمال ترباس.
(2)
في تلك الليلة المحضورة والمشهودة غني أبوعركي البخيت بمزاج عال وصاحبته فرقة موسيقية ضخمة ذات كفاءة عالية في التنفيذ الموسيقي للأغنيات بمصاحبة النوتة الموسيقية ولعل أبوعركي واحد من قلائل ظل مهتما بضرورة وجود النوتة الموسيقية في كل حفلاته الغنائية وذلك يؤشر علي ٱهتمامه العالي بالانضباط والصرامة في تنفيذ أفكاره اللحنية ورؤيته التوزيعية لأغنياته .. وتم بث الحفل عبر التلفزيون القومي ولكن تم حذف أغنية (تعالو نغني) وهي من كلمات وألحان أبوعركي البخيت .. حيث تم تسجيلها كاملة مع بقية الأغاني ولكن ٱدارة التلفزيون وقتها بقيادة الدباب محمد حاتم رفضت بثها بدعوي أنها أغنية تمس النظام الحاكم وقتها وفيها نقد مباشر لواقع الحياة في السودان .. وربما ذلك الموقف التعسفي من أدارة التلفزيون تسبب في عودة أبوعركي لذات الموقف العدائي للأجهزة الأعلامية والتي يري بأنها تمثل ( بوقا) للنظام الحاكم وتأتمر بأمره وليس بأمر الشعب وهو المالك الأساسي لتلك المؤسسات الٱعلامية .. ولعلي في هذه الجزئية أتفق مع أبوعركي البخيت بضرورة تحرير تلك الأجهزة من قبضة أي نظام حاكم .. ومع الفرحة الطاغية بتحرير مباني الأذاعة والتلفزيون يبقي الأهم هو تحرير المعاني حتي تطلق تلك الأجهزة الاعلامية وتؤدي دورها الرسالي كخادمة للشعب وحده وليس سواه.
(3)
رحمة الله الواسعة لوالدي (محمد مصطفي رحمة) الذي سيكمل عشر أعوام علي رحيله في أبريل القادم .. كان أبا طيبا وحنونا ولين الجانب .. لم نري منه تعسفا او شططا في التربية .. وصراحة لم يكن متقبلا لفكرة حذف أسمه من أسمي وكان يريدني أن أكتب بأسمي الكامل( سراج الدين محمد مصطفي) ولكن الحبيب هيثم كابو هو من أدخلني في تلك الورطة فهو من قام بحذف أسم (محمد) حينما كان مشرفا علي الملف الفني بصحيفة الحرية .. كنت أكتب أسمي كاملا في أي مقال أكتبه ويأت هيثم كابو ليلا ليحذف أسم ( محمد) وأجد أسمي في الصباح (سراج الدين مصطفي) وهو له مبررات فنية بداعي (أسم الشهرة) يجب أن يكون خفيفا وموسيقيا وقابل للتداول .. ولعلي هنا أتفق معه جزئيا في ذلك المنحي .. ومثلا الفنان ميرغني محمد ابنعوف لم يكن أسما فنيا ولكنه أصبح أكثر شيوعا حينما أطلقوا عليه أسم (محمد ميرغني) وكذا الحال الفنان (كمال ابراهيم سليمان) الشهير بكمال ترباس .. وهنا لابد من الأشارة الي أن الاستاذ الموسيقار عبدالماجد خليفة هو من أطلق علي (يوسف عثمان بلال) لقب ( يوسف الموصلي) والفنان (عبدالمنعم عباس) لقب (عبدالمنعم الخالدي) نسبة الي قريته (شلعوها الخوالدة) وكذلك الفنان حمد البابلي .. والقائمة تطول .. وأكتفي بتلك النماذج .. وأعود لوالدي محمد مصطفي الذي كان محبا للفنان الجميل (زكي عبدالكريم) .. وتلك هي بداية علاقة المحبة بالفنان المدهش زكي عبدالكريم .. فهو نموذج للفنان الموهوب صاحب القدرات الأدائية والتطريبية العالية .. فهو قدم أغنيات فارعة لعل أشهرها (حلاة بلدي) للشاعر علي الركابي .. بالمناسبة كان هذا الشاعر يعمل ك(ساعاتي) في السوق العربي برفقة الفنان الكردفاني الكبير (ابراهيم موسي ابا) .. كما قدم زكي عبدالكريم (أميرة الشباب) للشاعر محمد صالح بركية ولديه عند صلاح بن البادية أغنية (الهدف) وهو والد المذبعة (ايمان بركية) .. وقائمة أغنيات زكي عبدالكريم لم يمكن أن نتجاوز أغنية بقامة (أسأل نفسك) لأمير الشعراء محمد علي أبوقطاطي وألحان أحمد زاهر.
(4)
في دار الخرطوم جنوب الموسيقي والغناء كنت كثير الجلوس الحميم مع الأستاذ عبدالكريم .. فهو كما هو عالي التطريب في الغناء فهو عالي التطريب في الونسة والحكي عن الحياة الفنية السودانية .. وفي جلساتنا كنت أفاجي الأستاذ زكي عبدالكريم ببعض المعلومات الخفية عن تجربته وعن أغنيات لم يعد يغنيها .. كان الأستاذ زكي يستغرب جدا عن مصدري لتلك المعلومات .. حتي كشفت له ذات يوم وقلت له بأنني أذهب كل أسبوع لدار الوثائق السودانية وأقلب الصحف القديمة خاصة الصفحات الفنية التي كان يحررها أساتذتنا الكبار أمثال ميرغني البكري والنعمان علي الله وسليمان عبدالجليل ..فهي كانت صفحات ثرة وغنية بالمعلومات .. ومن المحزن جدا أن ذلك الأرث الكبير في دار الوثائق قد تمت ٱبادته بالكامل في هذه الحرب اللعينة التي أستهدفت الشعب السوداني في كل مفاصل حياته ولم تسلم حتي الوثائق القديمة منها في محاولة لمحو ذاكرة الأمة السودانية وطمس هويتها الثقافية ..
(5)
في العام 2014 كنت في رحلة لمدينة كسلا لحضور فعاليات مهرجان الثقافة والسياحة .. وتشرفت بمرافقة الشاعر الكبير اسحق الحلنقي والراحل الجميل سعدالدين ابراهيم .. مختار دفع الله .. محمد نجيب محمد علي شاعر بتذكرك التي تغني بها احمد شاويش .. والعديد من المبدعين أمثال شكرالله خلف الله وعبدالوهاب هلاوي ويس ابراهيم .. ولعلي كنت محظوظا بمرافقة تلك الكوكبة المدهشة .. ولكن حظي الأكبر تمثل في مرافقتي لاسحق الحلنقي في غرفة واحدة طيلة عشرة أيام كاملة وكانت فترة كافية جدا للإقتراب من عوالم الحلنقي وحياته الخاصة بعيدا عن صخب وضجيج النجومية وأسمه الكبير في عالم الغناء السوداني والعدد الكبير من القصائد التي تجولت في معظم حناجر فناني السوداني .. حتي إنني وفي حماسة الشباب ذات يوم قلت لأستاذي الراحل سعد الدين ابراهيم بأنني أرغب في حصر الفنانين الذين تغنوا بقصائد الحلنقي ولكن سعدالدين ابراهيم بذكاؤه المعهود قال لي(من الأفضل أن تحصر عدد الفنانين الذين لم يتغنوا بقصائد الحلنقي) وذلك يؤشر علي أن قصائده تمددت وانتشرت بشكل كثيف وأصبح هو الشاعر الذي تبث أغنياته بكثافة في برنامج (ما يطلبه المستمعون) .. وكان البرنامج وقتها يتمتع بقاعدة شعبية كبيرة ومعظم الاغنيات المطلوبة كانت من اشعار الحلنقي .. والتدافع نحو غناء الحلنقي جعله ذات يوم يطلب من مدير الإذاعة وقتها (متولي عيد) زيادة مستحقاته المالية ولكن مدير الاذاعة رفض ذلك الطلب وقال بأنه سيوقف بث أي أغنية للحلنقي .. ولكن شاعرنا الكبير تحدي مدير الاذاعة وقال له إيقاف أغنياتي يعني أن تتفرغ الإذاعة فقط لنشرات الاخبار .. او كمال قال تحديدا ( والله توقف الاغاني بتاعتي .. الاذاعة دي الا تشتغل اخبار بس) .. ذلك الموقف يحكي عظمة الحلنقي كشاعر مؤثر في مسيرة الاغنية السودانية .. وحينما رافقته في تلك الأيام في مدينة كسلا .. أول ما أكتشفته أن الحلنقي يعيش بقلب طفل .. إنسان في منتهي الرقة والعذوبة .. يحب محمد وردي بشغف كبير دونا عن كل الفنانين الذين تغنوا بقصائده .. وأجمل ما في اسحق الحلنقي إبتعاده عن ممارسة الفعل السياسي ولا يقترب منه ابدا .. ويري بأنه شاعر ملك للجميع وليس لحزب أو جماعة .. ولكل تلك المجاميع إحتفظ الحلنقي بمودة خاصة عند الشعب السوداني .. وذات هذا الشعب تجده يضع تقديرا للاستاذ الصحفي الكبير (حسين خوجلي) كمثقف رفيع وأعتقد بأنه نموذج باذخ للذين خصمت منهم ممارسة السياسة فهو لو إكتفي بحسين خوجلي المثقف لكان أفيد لنا وله ولأصبح في مكانة غير المكانة الحالية التي وضعته في مرات كثيرة في مواجهات غير متكافئة.